فصل: تفسير الآيات (9- 10):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد (نسخة منقحة)



.تفسير الآيات (5- 8):

{هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآَيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آَيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)}
قلت: «ضياء»: مفعول ثان، أي: ذات ضياء، وهو مصدر كقيام، أو جمع ضوء كسياط، والياء منقلبة عن الواو، وفي رواية عن ابن كثير بهمزتين في كل القرآن على القلب، بتقديم اللام على العين، والضمير في {قدره} للشمس والقمر، كقوله: {والله وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ} [التوبة: 26]، أو للقمر فقط.
يقول الحق جل جلاله: {هو الذي جعل الشمس ضياء} أي: ذات ضوء وإشراق أصلي، {والقمرَ نوراً} أي: ذا نور عارض، مقتبس من نور الشمس عند مقابلته إياها، ولذلك يزيد نوره وينقص، فقد نبه سبحانه بذلك على أنه خلق الشمس نيرة في ذاتها، والقمر نوراً بعرض مقابلة الشمس والاكتساب منها، فالنور أعم من الضياء، والضياء أعظم من النور. {وقدَّره منازلَ} أي: قدر سير كل واحد منهما منازل، أو القمر فقط، وخصصه بالذكر لسرعة سيره، ومعاينة منازله، وإناطة أحكام الشرع به. ولذلك علله بقوله: {لتعلموا عددَ السنينَ والحسابَ} أي: حساب الأوقات من الأشهر والأيام والليالي في معاملتكم وتصرفاتكم: {ما خلق اللَّهُ ذلك} الذي تقدم من أنواع المخلوقات {إلا بالحق} أي: ملتبساً بالحق، مراعياً فيه مقتضى الحكمة البالغة، لا عبثاً عارياً عن الحكمة، أو ما خلق ذلك إلا ليُعرف فيها، فما نُصب الكائنات لتراها، بل لترى فيها مولاها. وقال الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه: الحق الذي خلق الله به كل شيء كلمة {كن}. قال سبحانه: {وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الحق وَلَهُ الملك} [الأنعام: 73]. اهـ. وهو بعيد هنا.
{نُفَصِّلُ الآياتِ لقوم يعلمون} فإنهم المنتفعون بالنظر فيها والاعتبار بها.
ثم بيَّن وجه الاعتبار فقال: {إن في اختلاف الليل والنهار} أي: تعاقبهما بالذهاب والمجيء، أو بالزيادة والنقصان، {وما خلق اللهُ في السموات والأرض} من أنواع الكائنات وضروب المخلوقات، {لآياتٍ} دالة على وجود الصانع ووحدته، وكمال علمه وقدرته، {لقوم يتقون} الله، ويخشون العواقب، فإن ذلك يحملهم على التفكر والتدبر، بخلاف المنهمكين في الغفلة والمعاصي، الذين أشار إليهم بقوله: {إن الذين لا يرجون لقاءَنا} أي: لا يتوقعونه، أو: لا يخافون بأسه لإنكارهم البعث، وذهولهم بالمحسوسات عما وراءها، {ورَضُوا بالحياة الدنيا}: قنعوا بها بدلاً من الآخرة لغفلتهم عنها، {واطمأنوا بها} أي: سكنوا إليها مقْصرين هممهم على لذائذها وزخارفها، وسكنوا فيها سكون من يظن أنه لا ينزعج عنها. {والذين هم عن آياتنا} المتقدمة الدالة على كمال قدرتنا، {غافلون}: لا يتفكرون فيها ولا يعتبرون؛ لانهماكهم في الغفلة والذنوب.
قال البيضاوي: والعطف إما لتغاير الوصفين، والتنبيه على أن الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات رأساً، والانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلاً، وإما لتغاير الفريقين، والمراد بالأولين: من أنكر البعث ولم يُرد إلاّ الحياة الدنيا، وبالآخرين من ألهاه حبُ العاجل عن التأمل في الآجل والإعداد له. اهـ.
{أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون} أي: بما واظبوا عليه وتمرنوا به من المعاصي. قال ابن عطية: وفي هذه اللفظة رد على الجبرية، ونص على تعلق العقاب بالتكسب. اهـ.
الإشارة: هو الذي جعل شمس العِيَان مشرقة في قلوب أهل العرفان، لا غروب لها مدى الأزمان، وجعل قمر توحيد الدليل والبرهان نوراً يهتدي به إلى طريق الوصول إلى العيان، وقدَّر السير به منازل وهي مقامات اليقين ومنازل السائرين ينزلون فيها مقاماً مقاماً إلى صريح المعرفة، وهي التوبة والخوف، والرجاء والورع، والزهد والصبر، والشكر والرضى والتسليم والمحبة، والمراقبة والمشاهدة. ما خلق الله ذلك إلا بالحق، ليتوصل به إلى الحق. إن في اختلاف ليل القبض ونهار البسط على قلب المريد لآيات دالة له على السير، لقوم يتّقون السوى، أو شواغل الحس.
إن الذين لا يرجون الوصول إلينا لقصر همتهم، ورضوا بالحياة الدنيا وشهواتها، واطمأنوا بها لم يرحلوا عنها، إذ لا يتحقق سير السائرين إلا بمجاهدة تركها والرحيل بالقلب عنها، والذين هم عن آياتنا غافلون؛ لانهماكهم في الهوى والحظوظ، أولئك مأواهم نار القطيعة وغم الحجاب، بما كانوا يكسبون من الاشتغال بالحظوظ والشهوات. وبالله التوفيق.

.تفسير الآيات (9- 10):

{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآَخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)}
قلت: {تجري}: جملة استئنافية، أو خبر ثان لإنَّ، أو حال من الضمير المنصوب في {يهديهم}. و{دعواهم}: مبتدأ، و{سبحانك}: مقول للخبر أي: قولهم سبحانك. والتحية مأخوذة من تمني الحياة والدعاء بها، حياة تحية، ويقال للوجه: مُحيا لوقوع التحية عند رؤيته، {وآخر}: مبتدأ، و{أن الحمد لله}: خبر، وأن مخففة.
يقول الحق جل جلاله: {إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات يَهْدِيهمْ ربُّهم} أي: يسددهم {بإيمانهم}؛ بسبب إيمانهم إلى الاستقامة والنظر، أوْ إلى سلوك سبيل يؤدي إلى الجنة، أوْ إلى إدراك الحقائق العرفانية، كما قال عليه الصلاة والسلام: «مَنْ عَمِلَ بما علِم أَوْرَثه اللهُ علْمَ ما لَمْ يَعْلَمْ» أو لِمَا يشتهونه في الجنة، {تجري من تحتهم الأنهارُ} الأربعة، {في جنات النعيم}، {دَعْواهم فيها} أي: دعاؤهم فيها: {سبحانك اللهم} أي: اللهم إنا نسبحك تسْبيحاً. ورُوي: أن هذه الكلمة هي ثمر أهل الجنة، فإذا اشتهى احدهم شيئاً قال: سبحانك اللهم، فينزل بين يديه. رواه ابن جريج وسفيان بن عيينة.
{وتحيتُهم فيها سلام} أي: ما يحيي به بعضهم بعضاً، أو تحيّة الملائكة إياهم، أو تسليم الله تعالى عليهم فيها سلام، {وآخر دعواهم أن الحمد لله رب العالمين} أي: وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده تعالى وشكره. والمعنى: أنهم إذا دخلوا الجنة وعاينوا عظمته وكبرياءه مجَّدوه ونعتوه بنعوت الجلال، وقدَّسُوه عند مشاهدته عن كل تماثيل وخيال، فحيَّاهم بسلام من عنده، وعندما منحهم سلامه واحلَّ عليهم رضوانه، وأدام لهم كرامته وجواره، وأراهم وجهه، حمدوه بما حمد به نفسه، فكانت بدايتهم بالتنزيه والتعظيم، وخاتمة دعائهم في كل موطن حمده وشكره على ما مكنهم فيه، من رؤية وجهه الكريم، ودوام النعيم المقيم، وسمي دعاء لأنه يستدعي المزيد من فضله. قاله المحشي.
الإشارة: إن الذين استكملوا الإيمان، وأخلصوا الأعمال، يهديهم ربهم إلى من يوصلهم إلى جنة حضرته ببركة إيمانهم، تجري من تحت أفكارهم أنهار العلوم، في جنات مشاهدة طلعته، والتنعم بأنوار معرفته، فإذا عاينوا ذلك أدهشتهم الأنوار، فبادروا إلى التنزيه والتقديس، فيجيبهم الحق تعالى بإقباله عليهم بأنوار وجهه، وأسرار ذاته، فيحمدونه ويشكرونه على ما أولاهم من سوابغ نعمته، والسكون في جوار حضرته، منحنا الله من ذلك الحظ الأوفر، آمين.

.تفسير الآية رقم (11):

{وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)}
قلت: {استعجالهم}: نصب على المصدر، أي: استعجالاً مثل استعجالهم بالخير. قال البيضاوي: وضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعاراً بسرعة إجابته لهم في الخير، حتى كأن استعجالهم به تعجيل لهم. اهـ. {فَنَذَرَ}: عطف على فعل محذوف دلت عليه الشرطية، كأنه قيل: ولكن لا نعجل ولا نقضي بل نمهلهم فنذر.. إلخ.
يقول الحق جل جلاله: {ولو يعجلُ الله الناس الشرَّ} حيث يطلبونه، كقولهم: {فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} [الأنفال: 32] {ائتنا بِمَا تَعِدُنَآ} [الأعراف: 77] {استعجالهم بالخير}؛ كما يعجل الله لهم الخير حين يسألونه {لقُضِيَ إليهم أجلُهُم} أي: لأميتوا وأهلكوا من ساعتهم، وقرأ ابن عباس ويعقوب: {لَقَضى} بالبناء للفاعل، أي: لقضى الله إليهم أجلهم، ولكن من حلمه الله تعالى وكرمه يُمهلهم إلى تمام أجلهم، {فَنذَرُ الذين لا يرجون لقاءنا} استدراجاً وإمهالاً {في طغيانهم يعمهون}: يتحيرون. والعمه: الخبط في الضلال، وهذا التفسير أليق بمناسبة الكلام، وقيل: نزلت في دعاء الإنسان على نفسه وماله بالشر، أي: لو عجل اللهُ للناس الشر كما يحبون تعجيل الخير لهلكوا سريعاً، فهو كقوله: {وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير} [الإسراء: 11] ويكون قوله: {فنذر...} إلخ استئنافاً. والله تعالى أعلم.
الإشارة: من حلمه تعالى وسعة جوده أنه لا يعامل عبده بما يستحقه من العقاب، ولا يعاجله بما يطلبه إن لم يكن فيه سداد وصواب، حُكي أن رجلاً قال لبعض الأنبياء عليهم السلام: قل لربي: كم أعصيه وأخالفه ولم يعاقبني، فأوحى الله إلى ذلك النبي: ليعلم أني أنا وأنت أنت. اهـ. بل من عظيم كرمه تعالى أنه قد يعامل السائرين بعكس ما يستحقونه في جانب المخالفة؛ فقد تهوى بهم أنفسهم إلى مقام الخفض فيرتفعون، وإلى مقام البُعد فيقتربون، وهذا في قوم سبقت لهم العناية، فلم تضرهم الجناية، وحفت بهم الرعاية، فلم تستهوهم الغواية، إذا صدرت منهم المخالفة ندموا وانكسروا. والغالب فيمن كانت تحت جناح الأولياء الكبار أن يسلك به هذا المسلك العظيم وما ذلك على الله بعزيز.

.تفسير الآية رقم (12):

{وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنْبِهِ أَوْ قَاعِدًا أَوْ قَائِمًا فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (12)}
قلت: {لجنبه}: متعلق بحال محذوفة، أي: مضطجعاً لجنبه، و{كأن} مخففة.
يقول الحق جل جلاله: {وإذا مسَّ الإنسان الضُّرُّ} في بدنه أو ماله أو أحبابه، {دعانا} لإزالته مخلصاً فيه، وتضرع إلينا حال كونه مضطجعاً {لجَنْبِه أو قاعداً أو قائماً}، وفائدة الترديد تقسم الدعاء لجميع الأحوال أو لأصناف المضار، {فلما كشفنا عنه ضُرَّه مرَّ} أي: مضى على طريقه واستمر على كفره، ولم يشكر الله على دفعه، أو مرَّ عن موقف الدعاء، ولم يرجع إليه. {كأن لم يَدْعُنَا} أي: كأنه لم يدعنا {إلى} كشف {ضُرّ مسَّهُ} قط: {نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ} [الزمر: 8] {كذلك زُيّنَ للمسرفين} أي: مثل هذا التزيين زين للمسرفين {ما كانوا يعلمون} من الانهماك في الشهوات، والإعراض عن شكر المنعم عند المسرات وذهاب العاهات.
وفي الآية تهديد لمن تشبه بهذه الحالة، بل الواجب على العبد دوام التجائه إلى ربه، والشكر له عند ظهور إجابته وإسدال عافيته.
الإشارة: من حسن الأدب؛ السكون تحت مجاري الأقدار، والتسليم لأحكام الواحد القهار، فليس الشأن تُرزق الطلب، إنما الشأن أن تُرزق حسن الأدب، وحسن الأدب: هو الفهم عن الله؛ فإذا شرح صدرك للدعاء، فادع ولا تكثر، فإن المدعو قريب، ليس بغافل فيُنبه، ولا ببعيد فتنادي عليه، فإذا دعوته وأجابك فاشكره، وإن أخَّر عنك الإجابة فاصبر؛ فقد ضمن الإجابة فيما يريد، لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد. والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (13- 14):

{وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)}
يقول الحق جل جلاله: {ولقد أهلكنا القرونَ من قبلكم} يا أهل مكة، {لمَّا ظلمُوا} بالكفر وتكذيب الرسل، {وجاءتهم رسلُهم بالبينات}: بالمعجزات الواضحات، الدالة على صدقهم، {وما كانوا ليؤمنوا} أي: ما استقام لهم أن يُؤمنوا، لما سبق لهم من الشقاء ولفساد استعدادهم، أو ما كانوا ليؤمنوا بعد أن هلكوا لفوات محله، {كذلك} أي: مثل ذلك الجزاء وهو إهلاكهم بسبب تكذيبهم الرسل وإصرارهم عليه، بحيث تحقق أنه لا فائدة في إمهالهم {نجزي القوم المجرمين} أي: نجزي كل مجرم، أو نجزيهم، ووضع المظهر موضع المضمر؛ للدلالة على كمال جرمهم، وأنهم أعلام فيه. قال البيضاوي.
{ثم جعلناكم} يا أمة محمد {خلائف في الأرض من بعدِهم} من بعد إهلاكهم، فقد استخلفناكم فيها بعد القرون التي أهلكناها، استخلاف من يختَبرُ {لننظُرَ} أي: لنظهر ما سبق به العلم، فيتبين في الوجود، {كيف تعملون}، أخيراً أم شراً؟ فنعاملكم على مقتضى أعمالكم.
وكان سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول: «إنما جعلنا خلفاً لينظر كيف عملنا، فأروا الله حسن أعمالكم في السر والعلانية» وكان أيضاً يقول: «قد استخلفتَ يا ابن الخطاب، فانظر كيف تعمل».
الإشارة: ما هلك من هلك إلا لإخلاله بالشرائع أو بالحقائق، فالشرائع، صيانة للأشباح، والحقائق صيانة للأرواح، فمن قام بالشرائع كما ينبغي صان نفسه من الآفات الدنيوية والأخروية، ومن قام بالحقائق على ما ينبغي، صان روحَه من الجهل بالله في هذه الدار، وفي تلك الدار ومن قام بهما معاً صان جسمه وروحه، وكان من المقربين، ومن قام بالشرائع دون الحقائق صان جسمه وترك روحه معذَّبةً في هذه الدار بالخواطر والوساوس والأوهام، وفي تلك الدار بالبعد والمقام مع العوام. ومن قام بالحقائق دون الشرائع فإن كان دعوى عُذب جسمه وروحه لزندقته، وإن كان حقاً عذب جسمه هنا بالقتل، كما فُعل بالحلاج، والتحق بالمقربين في تلك الدار.
ويقال لأهل كل عصر: ولقد أهلكنا القرون من قبلكم بالبُعد وغم الحجاب، لما ظلموا بالوقوف مع الحظوظ والشهوات، وجاءتهم رسلهم التي توصلهم إلى ربهم وهم أولياء زمانهم الآيات الواضحة على صدقهم، ولو لم يكن إلا هداية الخلق على يديهم فأنكروهم، وما كانوا ليؤمنوا بهم لِمَا سبق لهم من البُعد، ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم، لننظر كيف تعملون مع شيوخ التربية في زمانكم، هل تنكرونهم أو تقرونهم، والله تعالى أعلم.

.تفسير الآيات (15- 16):

{وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآَنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)}
يقول الحق جل جلاله: {وإذا تُتلى عليهم} يعني كفار قريش {آياتُنا بينات قال الذين لا يرجون لقاءنا} من المشركين {ائْتِ بقرآن غيرِ هذا} أي: بكتاب آخر ليس فيه ما نستبعده من البعث والحساب، والعقاب بعد الموت، أو ما ذكره من سب آلهتنا، وعيب ديننا، أو اجعل هذا الكلام الذي من قِبَلك على اختيارنا، فأحل ما حرمته، وحرم ما أحللته؛ ليكون أمرنا واحداً وكلمتنا متصلة، {أوبدِّلْه} بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية أخرى.
{قل} لهم يا محمد: {ما يكون}: ما يصح {لي أن أبدِّله من تلقاء نفسي}: من قِبل نفسي، وإنما اكتفى بالجواب المذكور عن التبديل؛ لاستلزام امتناعه امتناع الإتيان بقرآن آخر، قل لهم: {إنْ} أي: ما {أتبعُ إلا ما يوحى إليَّ}، لا أقدر أن أقول شيئاً من عندي. قال البيضاوي: هو تعليل لما يكون، فإن المتبع لغيره في أمر لم يستبد بالتصرف فيه بوجه، وجواب للنقض بنسخ بعض الآيات لبعض، ورد لما عَرّضوا له بهذا السؤال من أن القرآن كلامه واختراعُه، ولذلك قيد التبديل في الجواب وسماه عصياناً فقال: {إني أخاف إن عصيتُ ربي عذاب يوم عظيم} يوم القيامة، وفيه إيماء بأنهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح. اهـ.
{قل لو شاءَ اللهُ ما} أرسلني إليكم، ولا {تلوتُه عليكم ولا أدْرَاكم} أي: أعلمكم {به} على لساني. وفي قراءة ابن كثير: ولأدراكم، بلام التأكيد، أي: لو شاء الله ما تلوته عليكم ولأعلمكم به على لسان غيري.
والمعنى أنه الحق لا شك فيه، لو لم أُرْسَل به أنا لأرسل به غيري. وحاصل المعنى: أن الأمر بمشيئة الله لا بمشيئتي، حتى أجعله على نحو ما تشتهون. ثم قرر ذلك بقوله: {فقدْ لبثتُ فيكم عُمُراً} منذ أربعين سنة {مِن قبله} أي: من قبل نزول هذا القرآن، لا أتلوه ولا أعلم منه شيئاً، وفيه إشارة إلى القرآن معجز خارق للعادة، فأن من عاش بين أظهرهم أربعين سنة لم يدرس فيها علماً، ولا يشاهد عالِماً، ولم ينشد قريضاً أي: شعراً ولا خطبة، ثم قرأ عليهم كتاباً أعجزت فصاحتُه كل منطيق، وفاق كل منظوم ومنثور، واحتوى على قواعد عِلْمي الأصول والفروع، وأعرب عن أَقاصيص الأولين وأحاديث الآخرين على ما هي عليه، عُلم انه معلم به من عند الله. قاله البيضاوي.
فكل من له عقل سليم أدرك حقِّيته، ولذلك قرعهم بقوله: {أفلا تعقلون} أي: أفلا تستعملون عقولكم بالتدبر والتفكر، فتعلموا أنه ليس من طوْق البشر، بل هو من عند الحكيم العليم الواحد القهار.
الإشارة: إذا ظهر أهل التربية الداعون إلى الله بطريق صعبة على النفوس، يُسيرون الناس عليها، كخرق العوائد وتخريب الظواهر والتجريد، قال من لا يرجو الوصول إلى الله لغلبة الهوى عليه: ائتونا بطريق غير هذا لنتبعكم عليه، يكون سهلاً على النفوس، موافقاً لعوائدنا، أو بدلوا هذا بطريق أسهل، وأما هذا الذي أتيتم به، فلا نقدر عليه، وربما رموه بالبدعة، فيقولون لهم: ما يكون لنا أن نبدله من تلقاء أنفسنا، إن نتبع إلا ما سلك عليه أشياخنا وأشياخهم، فما ربَّوْنا به نُربّي به من تبعنا، فإن خالفنا طريقهم خفنا من عقاب الله، حيث غششنا من اتبعنا، ولقد مكثنا معكم قبل صحبة أشياخنا سنين، فلم تروا علينا شيئاً من ذلك حتى صحبناهم، فدل ذلك على أنه موروث عن أشياخهم وأشياخ أشياخهم، أفلا تعقلون؟.